الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل له عليه السلام: إن خالفت دين آبائك فقد خسرت فنزلت {قُلْ إِنَّ الخاسرين} أي الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بإهلاكها في النار {وَأَهْلِيهِمْ} أي وخسروا أهليهم {يَوْمُ القيامة} لأنهم أضلوهم فصاروا إلى النار، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} حيث صدر الجملة بحرف التنبيه ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران ونعته بالمبين، وذلك لأنهم استبدلوا بالجنة نارًا وبالدرجات دركات {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ} أطباق {مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أطباق من النار وهي ظلل لآخرين أي النار محيطة بهم {ذلك} الذي وصف من العذاب أو ذلك الظلل {يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} ليؤمنوا به ويجتنبوا مناهيه {ياعباد فاتقون} ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي خوّفهم بالنار.ثم حذرهم نفسه {والذين اجتنبوا الطاغوت} الشياطين فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلبًا بتقديم اللام على العين، أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكون الطاغوت مصدرًا، وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأن عين الشيطان طغيان وأن البناء بناء مبالغة، فإن الرحموت الرحمة الواسعة، والملكوت الملك المبسوط والقلب وهو للاختصاص، إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها هاهنا الجمع وقريء {الطواغيت} {أَن يَعْبُدُوهَا} بدل الاشتمال من الطاغوت أي عبادتها {وَأَنَابُواْ} رجعوا {إِلَى الله لَهُمُ البشرى} هي البشارة بالثواب تتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين وحين يحشرون {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} هم الذين اجتنبوا أنابوا، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة فوضع الظاهر موضع الضمير أراد أن يكونوا نقادًا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب، وكذا المباح والندب حراصًا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابًا، أو يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن، أو يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو ونحو ذلك، أو يستمعون الحديث مع القوم فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه {أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب} أي المنتفعون بعقولهم.{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن في النار} أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب أي وجب {أَفَأَنتَ} جملة شرطية دخلت عليها همزة الانكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف تقديره: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الانكار.ووضع {مَن في النار} موضع الضمير أي تنقذه، فالآية على هذا جملة واحدة، أو معناه: أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه، أفأنت تنقذه أي لا يقدر أحد أن ينقذ من أضله الله وسبق في علمه أنه من أهل النار {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} أي لهم منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل أرفع منها يعني للكفار ظلل من النار وللمتقين غرف {مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت منازلها {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد} وعد الله مصدر مؤكد، لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى وعدهم الله ذلك.{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} يعني المطر.وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله {فَسَلَكَهُ} فادخله {يَنَابِيعَ في الأرض} عيونًا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد.و{يَنَابِيعَ} نصب على الحال أو على الظرف و{فِى الأرض} صفة ل {يَنَابِيعَ}.{ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} بالماء {زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض أو أصنافه من بن وشعير وسمسم وغير ذلك {ثُمَّ يَهِيجُ} يجف {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بعد نضارته وحسنه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما} فتاتًا متكسرًا، فالحطام ما تفتت وتكسر من النبت وغيره {إِنَّ في ذلك} في إنزال الماء وإخراج الزرع {لذكرى لأُِوْلِى الألباب} لتذكيرًا وتنبيهًا على أنه لابد من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير لا عن إهمال وتعطيل {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ} أي وسع صدره {للإسلام} فاهتدى، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرح فقال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» فقيل: فهل لذلك من علامة؟ قال نعم «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبّهِ} بيان وبصيرة، والمعنى: أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فقسا قلبه؟ فحذف لأن قوله: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ} يدل عليه {مِّن ذِكْرِ الله} أي من ترك ذكر الله أو من أجل ذكر الله أي إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] {أُوْلَئِكَ في ضلال مُّبِينٍ} غواية ظاهرة.{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} في إيقاع اسم {الله} مبتدأ وبناء {نَزَّلَ} عليه تفخيم لأحسن الحديث {كتابا} بدل من {أَحْسَنَ الحديث} أو حال منه {متشابها} يشبه بعضه بعضًا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة والإعجاز وغير ذلك {مَّثانِىَ} نعت {كتابا} جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه، فهو بيان لكونه متشابهًا لأن القصص المكررة وغيرها لا تكون إلا متشابهة.وقيل: لأنه يثنّى في التلاوة فلا يمل.وإنما جاز وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات؟ فكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات.أو منصوب على التمييز من {متشابها} كما تقول: رأيت رجلًا حسنًا شمائل، والمعنى متشابهة مثانية {تَقْشَعِرُّ} تضطرب وتتحرك {مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} يقال: اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضًا شديدًا.والمعنى أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، وفي الحديث «إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها» {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} أي إذا ذكرت آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة.وعُدي بإلى لتضمنه معنى فعل متعد بإلى كأنه قيل: اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة.واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة، لأن رحمته سبقت غضبه فلأصالة رحمته إذا ذكر الله لم يخطر بالبال إلا كونه رءوفًا رحيمًا.وذكرت الجلود وحدها أولًا ثم قرنت بها القلوب ثانيًا لأن محل الخشية القلب فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب {ذلك} إشارة إلى الكتاب وهو {هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ} من عباده وهو من علم منهم اختيار الاهتداء {وَمَن يُضْلِلِ الله} يخلق الضلالة فيه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} إلى الحق.{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ العذاب يَوْمَ القيامة} كمن أمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته، ومعناه أن الإنسان إذا لقي مخوفًا من المخاوف استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه {وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ} أي تقول لهم خزنة النار {ذُوقُواْ} وبال {مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي كسبكم {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قريش {فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بيناهم آمنون إذ فوجئوا من مأمنهم {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} الذل والصغار كالمسخ والخسف والقتل والجلاء ونحو ذلك من عذاب الله {فِى الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبْرُ} من عذاب الدنيا {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} لآمنوا.{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرءان مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ليتعظوا {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} حال مؤكدة كما تقول: جاءني زيد رجلًا صالحًا وإنسانًا عاقلًا، فتذكر رجلًا أو إنسانًا توكيدًا، أو نصب على المدح {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} مستقيمًا بريئًا من التناقض والاختلاف.ولم يقل مستقيمًا للإشعار بأن لا يكون فيه عوج قط.وقيل: المراد بالعوج الشك {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الكفر.{ضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلًا} بدل {فِيهِ شُرَكَاءُ متشاكسون} متنازعون ومختلفون {وَرَجُلًا سَلَمًا} مصدر سلم والمعنى ذا سلامة {لِرَجُلٍ} أي ذا خلوص له من الشركة.{سالمًا} مكي وأبو عمرو أي خالصًا له {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} صفة وهو تمييز، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالاهما.وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقريء {مثلين}.{الحمد للَّهِ} الذي لا إله إلا هو {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فيشركون به غيره.مثل الكافر ومعبوديه بعبد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع واختلاف، وكل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى وهو متحير لا يدري أيهم يرضي بخدمته، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته، وممن يطلب رزقه، وممن يلتمس رفقه، فهمه شعاع وقلبه أوزاع، والمؤمن بعبد له سيد واحد فهّمه واحد وقلبه مجتمع {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي ستموت {وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} وبالتخفيف من حل به الموت، قال الخليل أنشد أبو عمرو:
كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته فأخبر أن الموت يعمهم فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني، وعن قتادة: نعى إلى نبيه نفسه ونعى إليكم أنفسكم أي إنك وإياهم في عداد الموتى لأن ما هو كائن فكأن قد كان.{ثُمَّ إِنَّكُمْ} أي إنك وإياهم فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب {يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا واجتهدت في الدعوة، فلجّوا في العناد ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: أطعنا ساداتنا وكبراءنا، وتقول السادات: أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون.قال الصحابة رضى الله عنهم أجمعين: ما خصومتنا ونحن إخوان! فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا.عن أبي العالية: نزلت في أهل القبلة وذلك في الدماء والمظالم التي بينهم.والوجه هو الأوّل ألا ترى إلى قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} وقوله: {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} وما هو إلا بيان وتفسير للذين تكون بينهم الخصومة. اهـ.
|